يُقاس تقدم الأمم وتطورها؛ ليس فقط بما تملكه من أصول ثابتة ومتداولة ولكن أيضاً بمدى المقدرة على الحفاظ على هذه المكتسبات، ومدى مفهومها في الاستثمار في وسائل الأمن والسلامة للحفاظ عليها. ومن هذا المنطلق فإن الصيانة الدورية والحفاظ على المنشآت من أخطار نشوب الحرائق والكوارث ومدى تأثير هذه الكوارث في هذه المكتسبات وفي دوران عجلة النمو للناتج المحلي والاقتصاد الوطني، لا يختلف العقلاء على أهمية الأخذ بها، لذلك يُقاس وعي الأمم بمدى رغبتها في الاستثمار في الحفاظ عليها وحمايتها بالوسائل والإجراءات والقوانين المجدية اقتصاديا. وليس مبالغة أن تجد في الدول المتقدمة جميع الشركات والحكومات تخصّص ما يقرب من 5 - 10 في المائة من قيمة المشروع لوسائل وأنظمة السلامة والوقاية من الحريق.
من نافلة القول إن تطبيق هذه الأنظمة لا يأتي بطريقة عشوائية أو جهود مبعثرة، لذلك سنّت التشريعات والقوانين والمعايير التي اكتسبت من تجارب وكوارث وعلوم على مدى 200 سنة مضت في الدول المتقدمة التي بموجبها يتم تطبيق الملائم والمناسب من هذه الأنظمة والإجراءات والخطط الوقائية أو الاحترازية بناء على حجم الخطر ودرجة احتمالية حدوثه ومن ثم تحديد أنظمة السلامة والوقاية من الحريق الملائمة لنشاط المنشأة المراد مزاولته، ولا نقول، إن هذه منشأة صغيرة ولا تحتاج، فقد قيل في المثل العربي، "النار من مستصغر الشرر".
وبداية دراسة احتياج المجتمع ككل للاستثمار في أنظمة ومعدات الأمن والسلامة والوقاية من الحريق سواء بسبب احتمال حدوث الكوارث الطبيعية أو بسبب فعل فاعل أو بسبب عدم صيانتها الدورية أو بسبب عدم وجودها أصلا، فإنه لا بد أن يكون عملا مؤسسيا وضمن إجراءات وقوانين يجب أن تكون مسنونة، ويمكن تلخيصها في المحاور الآتية:
- وضع الخطط وسن القوانين والإجراءات التشريعية ورسم الأهداف وإدراجها ضمن الخطط الخمسية لمراجعة تحقق الأهداف.
- القيام بدراسات مبدئية لتقييم المخاطر واحتمالية حدوثها في أي منشأة أو على مستوى الوطن.
- تحديد الأنظمة والمعدات والخطط الداخلية لتقليل المخاطر إلى الحد المقبول اقتصاديا.
- التقييم والمراجعة والمتابعة الدورية.
ولكل عمل لا بد من رسم للأهداف ووضع الخطط والقوانين، ومن المؤسف أن أقول - طبعا هذا على حد معلوماتي - إنه لا يوجد في خططنا الخمسية الصادرة عن وزارة التخطيط أي أهداف مرسومة لتحقيق معدل معقول لتقدم الأمن والسلامة، ولا مؤشرات (Key Performance Indicators) تقيس مدى هذا التقدم أو التحسن، ولذلك يهدر كثيرا من الموارد المالية والاقتصادية بسبب عدم وجود مؤشرات لهذا القياس، لذلك أرى أنه لا بد أن يتم القيام بعمل دراسات من مختصين في التخطيط الاستراتيجي.
هذه الخطط تتم بناءً على دراسة جميع المناطق من حيث المخاطر المحتملة ودرجة خطورتها، فالمناطق تختلف في جغرافيتها وتضاريسها وجيولوجية أرضها، فهناك احتمال وقوع زلازل في مناطق أو فيضانات في أودية أو سيول أو أعاصير أو ملوثات صناعية بسبب وجود المصانع أو أخطار جوية بسبب وجود المطارات أو انهيارات أرضية، لكن في المجمل يمكن صياغة خطط عامة لجميع المناطق وخطط محددة لكل منطقة.
وفي رأيي، أنه يجب إنشاء هيئة تتبع وزارة التخطيط تشرف على هذه الدراسات والأهداف، ويسن مراجعة دورية لهذه الخطط، وعمل تدريبات افتراضية دورية لكي يكتشف أي ثغرات محتملة، وبالتنسيق مع جميع الجهات ذات العلاقة. بعد هذه الخطط العامة يجب سن القوانين والتشريعات المناسبة والمحددة والواضحة لكل خطر محتمل، ولا يمنع من أن نبدأ من حيث انتهى الآخرون فيما يخص اللوائح والمعايير الدولية المتعلقة بالسلامة مثل تلك الصادرة من قبل الجمعية الوطنية الأمريكية للوقاية من الحريق (NFPA).
وقد يتبادر إلى ذهن القارئ دوما أن الجهة المسؤولة عن السلامة والوقاية من الحريق هي الدفاع المدني وهذا صحيح تماما، لكن ليس فقط الدفاع المدني يستطيع المشاركة في السيطرة على كل موقف، فمثلا الكوارث الطبيعية تشارك جهات عدة، منها - على سبيل المثال - البلديات والحرس الوطني وربما الجيش في بعض الأحيان.
وأذكّر بحادث إعصار كاترينا في أمريكا حيث تدخّل الدفاع المدني والحرس الوطني وجهات عدة والطيران العمودي لإخلاء المحاصرين من الفيضانات من خلال غرفة عمليات مشتركة تم إعدادها وتجهيزها مسبقا وتم التدريب على استخدامها حسب الخطط المعدة سلفا التي تُراجَع ويُتدَرب عليها دوريا.
ومن ضمن هذه الدراسات عمل وتفعيل البنية التحتية من شبكات الحريق وتصريف السيول والأمطار وتحديد مكان محطات الإطفاء وعدد الآليات والأفراد ويحدد وقت الوصول إلى أبعد نقطة، ولا بد من وجود طريقين للوصول إلى نقطة الخطر من محطة الإطفاء وهذا يقودونا إلى دراسة ومعالجة المعوقات مثل تصريف مياه الأمطار والسيول، لأن الدفاع المدني يجد نفسه محاصرا في كثير من الأحيان للوصول إلى منطقة الحادث، وأيضا عدم وجود شبكة مياه الإطفاء يستنزف قدرات الدفاع المدني في إحضار صهاريج مياه متنقله، وهناك برامج حاسوب في الوقاية من الحريق يمكن استخدامها لتحديد أفضل مكان لتأسيس محطة إطفاء، وبرامج تحسب كميات الماء والضغط في الشبكات مثلا وهذه تفاصيل يعرفها المختصون، لذلك عدم وجود شبكات حريق في الأحياء أو المدن الصناعية تفي بالغرض ومُصانة لوقت الحاجة يؤثر في كفاءة الدفاع المدني ويؤثر ذلك في المنشآت نفسها؛ ما يضطرها إلى عمل خزانات حريق ومضخات خاصة بها. وهناك أوضح بعض الإقتراحات من وجهة نظري الشخصية: أولا، تحويل الدفاع المدني إلى قطاع مدني، ودمج الهلال الأحمر معه، لتتضافر الجهود، وتوحيد هاتف الطوارئ كما في الولايات المتحدة، وتبقى هيئة للدفاع المدني يمكن أن تكون عسكرية يناط بها الإشراف على قطاع الدفاع المدني وسن القوانين والتنسيق والمتابعة لدور هذا القطاع، فإيجابيات أن يكون هذا القطاع مدنيا تفوق سلبياته ويمكن بدء التحويل مرحليا، فيمكن تخصيص بعض مهام السلامة والتصاريح إلى مكاتب هندسية في المملكة أسوة ببعض أمانات المناطق، حيث حوّلت التفتيش وإصدار تراخيص البناء إلى مكاتب هندسية، ويتم الإشراف على عمل هذه المكاتب من قبل الدفاع المدني.
ثانيا، الرجوع إلى مفهوم رجل الأمن الشامل كما كان سائدا في السبعينيات، حيث رجل الشرطة هو المسعف الأول، وهذا بدوره يعزز الأمن والسلامة ووجود رجل الأمن في كل مكان.
وهناك دراسات كثيرة لا بد من القيام بها وتطبيق مفاهيمها، فمثلا القيام بدراسة المخاطر المحتملة لأي منشأة هو من بديهيات أي مشروع سوف يقام مثله مثل الجدوى الاقتصادية، ويجب أن يكون جزءا لا يتجزأ من مخطط المشروع وتكلفته الإجمالية ولا يسمح لبدء هذا المشروع إلا بوجود مثل هذه الدراسة ومن مكاتب هندسية مختصة ومعتمدة من الدفاع المدني، وهذا بالمناسبة يتم فعلا في المشاريع الكبيرة وذات الطابع الصناعي، لكن يوجد فجوة كبيرة في تطبيقه في القطاع المدني والسكني والتجاري.
وأيضا دراسة البنية التحتية بما فيها شبكة مياه الحريق وصيانتها؛ وشوارع واسعة هي في الحقيقة ضرورة وتخدم الجميع بما فيهم الدفاع المدني، وتُوفر عدد الآليات المطلوبة من صهاريج وغيرها والأفراد المطلوبين وتُسرّع وقت الاستجابة والتعامل مع أي حادث.
وهناك دراسات تعنى بدمج كثير من الوظائف للآليات والمركبات الإطفائية ما أيضا يوفر الأفراد والآليات والصيانة لهذه الآليات وخروجها عن الخدمة فقط بتوكيل أمر دراسة هذه الأمور من قبل مهندسين مختصين محليين ودوليين والحمدلله أن بلادنا تزخر بهم.
ومن المعلوم أن دراسة الاستجابة للحادث في زمن قصير (10 - 15 دقيقة) يمكّن رجال الدفاع المدني من السيطرة على الموقف بسرعة ويقلل الوفيات والإصابات في صفوف رجال الإطفاء والجمهور ويقلل التلفيات والخسائر في الممتلكات العامة والخاصة.
إن تحديد الأنظمة والمعدات والخطط الداخلية لأي منشأة ليس صعبا؛ بل يجب الرجوع إلى الكود، كما سبق ذكره، وبعد تحديد نوع الاستخدام يتم الرجوع إلى معايير تفصيلية تسمى، وهذه تستخدم كمعايير محددة ومفصلة تستخدم للرجوع إليها في التنفيذ وتركيب الأنظمة الجديدة أو الإضافة أو الصيانة الدورية لهذه الأنظمة.
وهذه المعايير تغطي نوع المواد المسموح بها والمسافات المحددة لأجهزة الإنذار والمرشات وصناديق وخراطيم الحريق والبرامج الحاسوبية لحساب التدفق المطلوب والضغط وحساب الأحمال الكهربائية لكل جهاز رش آلي أو نظام إنذار وكشف الدخان أو اللهب وهناك طبعا أمور كثيرة يجب أخذها في الحسبان مثل وجود النظام في منطقة ذات ثلوج وأجواء باردة، حيث إن الماء الموجود في نظام الرش سوف يتمدد ويكسر الأنابيب وفي هذه الحالة يتم إضافة مواد تمنع تثلج الماء عند درجة الصفر تماما، كما تعمل إضافة المحلول في الراديتر لأي سيارة تكون في مناطق باردة وهذا ينطبق على بعض المناطق مثل مناطق الشمال أو عسير.
وأخيرا وليس آخرا فإن عمل دراسات وتنفيذ وتركيب الأنظمة عمل جيد لكن إذا تُركت دون تقييم وصيانة دورية هو في الحقيقة مثل المستجير بعمر حين كربته كالمستجير من الرمضاء بالنار، وفي الواقع قد تعطي شعورا بأمن وحماية زائفة كما يسميها رجال الإطفاء. فهناك مفاهيم وتطبيقات ومعايير تتعلق بالمراجعة الدورية والصيانة الدورية، ويقوم بها مختصون ومستقلون لكي يكون المالك على بينة من الأمر وفي الحقيقة هناك كثير من الشركات والمنشآت الكبيرة التي تطبق هذه المراجعات الدورية تلقائيا لإحساسها بالمسؤولية والمراقبة الذاتية، ولكن هناك شركات ومنشآت لم تتفهم بعد أهمية وضرورة هذه المراجعات والقيام بها ولعدم وجود إلزام فعلي من الجهات المختصة لتطبيق فعلي لهذه المتطلبات. وللأمانة فإن هذه الجهات المختصة تجد نفسها محرجة في كثير من الأحيان ولذلك يجب على الجهات المختصة إيجاد آلية مراقبة وتنفيذ هذه الضرورات، ولا يكتفى بأخذ صورة من عقد سنوي من شركة أو مؤسسة مختصة ومعتمدة بل يجب التأكد من عمل هذه المؤسسات ومخرجاتها، فهناك مؤسسات وشركات تقوم بصيانة أو تنفيذ وتركيب أنظمة جديدة لكن في الأساس هذه الأنظمة إما أنها لا تفي بالغرض (مضخة حجمها 200 جالون في الدقيقة بدل أن تكون في الأصل 500 جالون مثلا) أو أن هذه الأنظمة كانت موصوفة لنشاط سابق وقد تم تغيير النشاط للمنشأة وبذلك تغيرت المتطلبات.
ولو أخذنا إحصائيات بعدد الحرائق والحوادث التي يستجيب لها الدفاع المدني لوجدنا أن كثيرا منها تحدث في منشآت قائمة منذ سنوات وهذا مؤشر على أنها لا يعمل لها صيانة ذات جدوى ومصداقية، أو أنه قد تم تغيير النشاط إلى درجة أنك تجد هذه المنشأة أو المصنع يخزن المواد القابلة للاشتعال خارج نطاق المنشأة أو حتى في الشارع. وهذا دليل واضح على أن الأنظمة المنفذة لم ولن تستطيع أن تسيطر على أي حادث يحدث ما يستهلك ويبدد جهود الدفاع المدني والجهات ذات العلاقة المختصة وهذا في الحقيقة نتيجة وليس السبب الأساسي، ودائما ما يلام الدفاع المدني في التقصير أو التأخر في الاستجابة أو عدم السيطرة على الموقف قبل حدوث تلفيات أو وفيات.
*مهندس مستشار وإخصائي معتمد في الوقاية من الحريق .