تعددت في الآونة الأخيرة حوادث الاهمال من حرائق بمصانع غير مرخصة، غرق معدية.. حوادث طرق، غرق بالوعات وغيرها، لتؤكد أن الاهمال لا يقل خطراً عن الارهاب.. كلاهما يحصد أرواح الأبرياء وكلاهما يقتل بلا رحمة والاهمال أشد فتكاً، فهو يقضي على أي ثمار للتنمية المنشودة وإذا كانت مصر تخوض حربا ضد الارهاب فعليها أيضاً مسئولية وواجب الحرب ضد الاهمال، والذي أصبح ظاهرة وآفة المسئولية في مصر المتهاونين بأرواح الأبرياء إذ يكتفون بعد كل كارثة أو حادثة بالتعويضات الفورية والبحث عن كبش فداء والعمل على تهدئة الرأي العام دون معالجة الأسباب الحقيقية ومعالجتها والتأكيد على أن الاهمال هو الجرثومة وأداة القتل العنيفة، وأنه إذا كان هناك المئات يقتلون بسبب الارهاب فهناك الآلاف أيضاً يتساقطون بدم بارد بسبب الاهمال وأن على الدولة اعلان الحرب على الاهمال لأنه لا يقل خطورة عن الارهاب وألا تترك الارهاب والاهمال إيد واحدة!!
اعتراف حكومي
المهندس ابراهيم محلب بعد حادث غرق مركب الوراق، أكد أن الاهمال اصبح أخطر من الارهاب، وأن عدم قطع الارزاق لا يمكن أن يكون على حساب ارواح المواطنين، وأنه لابد من فتح ملفات الفساد وبقوة.. كلام جميل لا يخرج عن كونه كلاماً، فالارهاب والاهمال في مصر أصبحا وجهين لعملة واحدة.. حالة من التواطؤ العام. ومئات الأمثلة على الاهمال والفساد الذي أصبح يأخذ قوة القانون ونكتشف ذلك ونتذكره بعد كل كارثة مع سيل من تصريحات المسئولين التي تهدف للبحث عن «كبش فداء» كما حدث وكالعادة في كارثة غرق اكثر من 40 شخصاً في النيل لاذنب لهم سوى أن قدارهم التعيسة دفعتهم لمحاولة اختلاس لحظات سعادة بالتنزه مثل باقي البشر، وكالعادة وبعد وقوع الكارثة اكتشف المسئولون ان المركب لا يحمل ترخيصاً ولا تتوافر به أي مقومات للحفاظ على أرواح البشر التي باتت أرخص من التراب، والدليل الآخر أن الانقاذ لم يبدأ الا بعد مرور 3 ساعات على وقوع الحادث.. فالحوادث والجرائم التي يقف الاهمال الصارخ وراءها كثيرة ومتعددة، فالإهمال والتراخي يسفران عن اكثر من 13 ألف قتيل سنوياً و50 ألف مصاب بسبب حوادث الطرق وهو ما جعل مصر في المرتبة الأولى عالمياً في هذا النوع من الحوادث.
حوادث الطرق بسبب الاهمال المتوارث والفوضى المستمرة والتراخي في تطبيق القانون على المخالفين وعدم إحكام الرقابة على الطرق والسائقين.. وهو ما تؤكده تقارير مركز المعلومات ودعم اتخاذ القرار وادارات المرور، ومنها أن نحو 50٪ من الحوادث تكون بسبب الشاحنات المسئولة عن نسبة 62٪ من القتلى، وكذلك اختلال عجلة القيادة من السائق وانحرافه عن الطريق بنسبة 20٪ وانفجار اطار المركبة بنسبة 3٪، فيما تبلغ نسبة الحوادث الناجمة عن عيوب فنية في الطريق مثل حجب الرؤية والمنحنيات الخطرة وسوء التخطيط حوالي 10٪ من مجمل أعداد المصابين في حوادث الطرق، اما حوادث اصطدام مركبة باخرى على طريق سريع من طريق فرعي أو دوران عكسي فتبلغ 15٪ الى جانب السرعة الجنونية وتعاطي السائق المنبهات والمخدرات المرتبطة بدرجة ما بحوادث الطرق كتساقط بضائع من على الطرق السريعة.
كذلك انتشار قطع الغيار المغشوشة للسيارات تتسبب في بعض الحوادث ووفقاً لتقارير مركز المعلومات واتخاذ القرار فإن عدم وجود قانون يحدد الحد الأقصى لساعات قيادة المركبات يومياً ما يجعل سائقي الشاحنات يقومون بالقيادة لأكثر من 14 ساعة يومياً وأكثر من 8 ساعات متصلة مما يتسبب في الارهاق الزائد والحوادث كذلك افتقار الطرق المصرية الى المراقبة الأمنية والمرورية والانضباط مما يزيد من اخطاء السائقين والأسباب كثيرة ومتعددة، ومن بينها افتقار معظم الطرق الخلوية في مصر الى وجود مسابقة استعادة الزمام بعد الانحراف، ويزيد من حجم الكوارث التأخر الدائم لسيارات الاسعاف وعدم وجود الخبرة في التعامل مع نقل المصابين ما يؤدي الى تفاقم الاصابات!
قصص أخرى يرويها البعض وتشهدها المحاكم وجميعها تأتي نتيجة اهمال الاطباء وضعف العقوبة، ومن أبرز صور الاهمال في الملف الطبي تردي الأوضاع داخل المستشفيات وهو ما كشفت عنه العديد من الحوادث المتتالية على مدار عقود متتالية وآخر تلك الحوادث وفاة 6 أطفال بعد تناولهم محلول معالجة الجفاف في مستشفيات مراكز ببا واهناسيا والوسطى وبني سويف، والتي ووفقا لآراء الخبراء والمختصين حادث أكد أن منظومة الرقابة والتفتيش على الدواء تحتاج الى رعاية وجرعات تقوية.. ومن قبل ذلك اصبحنا نرى الرضع يموتون في الحضانات إما خنقاً أو حرقاً.
فالاهمال أصبح آفة كل مؤسسات الدولة ولم تسلم منه حتى المدارس بعدما تحولت الى مقابر جماعية للتلاميذ إما لسقوط بوابات حديدية أو أسوار متهالكة تسقط لتفرم أجسادهم أو بالوعات مفتوحة على مصراعيها في أفنية المدارس أو حتى الشوارع العمومية المدعمة بأسلاك كهرباء مكشوفة تصعقهم أو من ضرب مبرح من بعض المدرسين وإحداث عاهات، ولا تتجاوز العقوبة 3 أشهر سجناً والنقل لاعمال ادارية وصولاً الى التحرش بتلميذات في عمر الزهور أو تصوير تلميذات في عمر الشباب وهن عرايا لإجبارهن على الانحراف.
الإهمال فيروس العصر
نيران مصنع «الحلو» للأثاث في المنطقة الصناعية بالعبور والذي راح ضحيته 24 عاملاً واصيب 26 آخرون لم يكن الأول ولن يكون الاخير، فقد شهد عام 2015 عدة حوادث مروعة بسبب الاهمال حيث تفتقر العديد من المباني لمواصفات الأمن الصناعي، ومن أبرز الحوادث خلال العام الحالي اندلاع حريق في مصنع لانتاج الكبريت في 19 يناير بالمنطقة الصناعية الثالثة بمدينة العاشر من رمضان وتم الدفع بـ 5 سيارات اطفاء، وفي 28 يناير من ذات العام الجاري شب حريق بمصنع للحلويات بمنطقة الصناع بمدينة المراغة بعد أن امتدت النيران الى 4 منازل مجاورة دون وقوع خسائر في الارواح، وفي 3 فبراير اندلع حريق بمصنع للعطور بمنطقة العمرانية الغربية وتمت السيطرة عليه قبل امتداد النيران لمبنى مستشفى الصدر المجاور للمصنع، وفي 23 فبراير أيضاً سيطرت الحماية المدنية بالقليوبية على حريق بمصنع ورق بالمنطقة الصناعية الأولى بمدينة العبور مما أسفر عن اصابة ضابط ومجند من قوات الحماية، وفي 26 فبراير شب حريق بمصنع للكرتون بالمنطقة الصناعية الثانية بمدينة 6 أكتوبر وقد دُمِر المصنع وأصيب عدد من العاملين بالاختناق، وفي 2 مارس شب حريق بمصنع الطوب بزفتى اثر انفجار اسطوانة غاز داخل المصنع وامتد الحريق الى تانك المازوت مما أسفر عن مصرع 4 واصابة 7 من العاملين.
وفي 8 مارس 2015، تفحمت 17 سيارة بمصنع إنتاج مثلجات بناهيا بعد اشتعال النيران فيه، بينما في 29 مارس شب حريق في مصنع بغزل وتصنيع بطاطين بقرية «شباس الملح» بمركز دسوق بكفر الشيخ وأصيب 3 عمال وفي 19 ابريل توفي 3 عمال وأصيب 8 آخرون إثر انفجار ماسورة غاز بمصنع بشاي للحديد والصلب بمدينة السادات، وفي 25 ابريل من نفس الشهر أصيب 17 شخصا في حريق بمصنع للخل بقرية ميت حبيش البحرية بطنطا، وقبل أن يلملم ابريل أوراقه شب حريق بمصنع الإسفنج بطريق الروبيكي بمدينة بدر بالقاهرة وقد استمر الحريق مشتعلا لـ11 ساعة بسبب وجود مواد كيماوية ومحطة للغاز وأخري للوقود بالقرب من المصنع وأدي الي إصابة 22 عاملا. كما احترق مصنع لإنتاج الملابس الجاهزة في 5 مايو في عمارة سكنية من 10 طوابق بمنطقة عين شمس كما أصيب عاملان في حريق شب بمصنع للورق والكرتون بشارع جعفر بمدينة نصر، وفي 23 مايو احترف مصنع سماد طلخا بشركة الدلتا للأسمدة الصناعات الكيماوية ودون وقوع خسائر بشرية والحمد لله بينما عشرات العمال في اندلاع حريق بمصنع للمواد الكيماوية والتنر بمنطقة الخادم بمدينة طنطا بجوار مخزن لأسطوانات البوتاجاز وذلك في 3 يونيو أيضا من العام الجاري. كما اندلع حريق بمصنع للدراجات البخارية بقليوب نجم عنه خسائر مادية قدرت بالملايين وفي 18 يونيو اندلع حريق بمصنع أخشاب بالمنطقة الصناعية بمدينة دمياط الجديد مما أدي الي القضاء بالكامل علي محتويات المصنع وفي 3 يوليو اندلع حريق بمصنع لحلج الأقطان عل طريق المحلة - طنطا الزراعي بمحافظة الغربية، كل ذلك وغيره وصولا لكارثة حريق مصنع الحلو للأثاث في 28 يوليو ليكون الأصعب والأسوأ في تاريخ حرائق ونيران عام 2015، بالمصانع حتي كتابة سطور هذا التحقيق.
ولأن الإهمال والفساد وجهان لعملة واحدة فلم يترك بابا إلا وطرقه وأصبحنا وفي وضح النهار نري عقارات مخالفة تشيد وأرواح تزهق وقرارات إزالة لا تنفذ والموت واحد.. والحكومة تسعي الي الصالح مع مخالفات البناء كما سبق وتصالح مع ناهب أموال وممتلكات وأقوات الشعب ولذلك هناك حقيقة يجب أن تعيها حكومة المهندس إبراهيم محلب وهي أنه اذا كان هناك المئات يقتلون بسبب الإرهاب فهناك الآلاف يتساقطون بدم بارد بسب الإهمال وعلي الدولة أن تعلن الحرب علي الإهمال لأنه أخطر ألف مرة من الإرهاب!
إهمال وإرهاب
المستشار محمد حامد الجمل رئيس مجلس الدولة الأسبق يري أن الإهمال لا يقل خطرا عن الإرهاب فكلاهما يحصد أرواح الأبرياء ولا ننسي أن الفترة الماضية شهدت حادثين أحدهما إهمال وتواطؤ والثاني إرهاب في محافظة الغربية بوفاة تلاميذ طنطا ضحايا الإهمال علي مزلقان بالشروق ووفاة أهالي المحلة ضحايا إرهاب انفجار قنبلة أمام بنك ومن ثم أصبح الإهمال والفساد يأخذ قوة القانون، طالما هناك مسئولون يكتفون بمجرد التبرير أو البحث عن كبش فداء رغم أن المسئولية وإن كانت مشتركة فتقع علي الرئيس والوزير المباشر للموظف الصغير وإن حددت المسئولية فمن الواقع أن العقوبة لا تزال للإهمال والقتل الخطأ غير رادعة ومن ثم العقوبة ضعيفة مما يعطي الفرصة مرارا وتكرارا لذات الحوادث الناجمة عن الإهمال أو حتي الإرهاب أن تستمر والنتيجة الغلابة دائما هم من يدفعون ثمن الإهمال والإرهاب وحرائق المصانع وانعدام وسائل الأمن الصناعي أبلغ دليل.
اعتياد الخطأ
الدكتورة زينات طبالة مدير مركز التنمية البشرية بمعهد التخطيط تؤكد أن ما يحدث من كوارث للتلاميذ وللمرضي وللعمال وللرضع ولغيرهم طبيعي لما أصاب جميع المصريين وفي مقدمتهم الحكومة من سلبية وإهمال بل وتعود علي الخطأ الذي أصبح بدوره نمط حياة وجزءا من مشكلة الفوضي والاستهتار والسلبية التي أصابت الشخصية المصرية والتي هي في حاجة لإعادة بناء ولإيجاد الضوابط الكافية للحماية من تكرار مثل هذه الكوارث سواء الناجمة عن الإهمال المتعمد أو الإرهاب.
التهاون بالقانون
الدكتور صلاح الدين الدسوقي مدير المركز العربي للدراسات التنموية والإدارية يري أنه رغم قيام الشعب بثورتين فإن الدولة وحكوماتها لم تتخذ الإجراءات الرادعة والجادة لمكافحة كل أوجه الساد والذي يعد الإهمال أحدها بل وأخطرها فكل مهمل فاسد واكتفت الحكومة ومسئولوها بمجرد كتابة التقارير وتشكيل اللجان مما شجع علي الفساد بدلا من التفكير بجدية في تعديل القوانين التي تحمي أوجه الفساد المختلفة بل وتشرعه فكيف لمن يتسبب في وفاة شخص أن يعاقب بالقتل الخطأ بالغرامة أو الحبس عدة أشهر وكيف التصالح مع من يزهقون أرواح المواطنين تحت خرسانات عمارات مخالفة بالتصالح معها، فالإهمال والإرهاب لا يزالان يدا واحدة لهدم كيان الدولة.. منه إرهاب رجال الأعمال للدولة وللشعب ممن كانوا يسعون للعب أدوار سياسية لخدمة مصالحهم الخاصة والتأثير علي دوائر صنع القرار والتشريعات بغرض لي ذراع الدولة وبالفعل نجحوا ولايزالون في ذلك والدليل رفع الحكومة للراية البيضاء أمام أباطرة الفحم والقطن المستورد وأباطرة البورصة كل ذلك بدلا من أن تأخذ الدولة منهم حق الشعب من هؤلاء المتآمرين وبالقانون وهو إهمال حكومي عمدي.
غطاء قانوني للمخالفين
المادة 238 من قانون العقوبات تنص علي أن من تسبب خطأ في موت شخص آخر بأن كان ذلك ناشئا عن إهماله أو رعونته أو عدم مراعاته للقوانين والقرارات والأنظمة واللوائح يعاقب بالحبس مدة لا تقل عن 6 شهور وغرامة لا تتجاوز الـ200 جنيه أو الاثنين معا وتكون العقوبة مدة لا تقل عن عام ولا تزيد علي 5 سنوات وغرامة لا تقل عن 100 جنيه ولا تتجاوز 500 جنيه في فقرة أخري من القانون نفسه أو بإحدي العقوبتين وأنه إذا وقعت الجريمة نتيجة إخلال الجاني إخلالا جسيما بما تفرضه أصول وظيفته أو مهمته تكون مدة الحبس لا تقل عن عام ولا تزيد علي 7 سنوات إذا نتج عن العمل إصابة 7 أشخاص وقد تصل لـ10 أعوام ومن جانبها تعلق الدكتورة فوزية عبدالستار أستاذ القانون الجنائي ورئيس اللجنة التشريعية بمجلس الشعب الأسبق علي العقوبة بأنها غير رادعة بالمرة مطالبة بضرورة تغليظ عقوبة الإهمال من أجل التصدي للعديد من الحوادث ولحماية أرواح المواطنين.
وترفض الربط بين الإهمال والإرهاب كجريمة لأن الإرهاب جريمة متعمدة والإهمال خطأ غير متعمد تتفاوت عقوباته وقد تصل للعفو وتلك هي الكارثة.