منتصف أغسطس الماضي، بلغت درجات الحرارة في عدد من محافظات مصر 49 درجة مئوية، وتجاوزت 50 درجة في محافظات الجنوب، خاصة الأقصر وأسوان. في هذا المناخ القاسي، يضطر ملايين العمال والموظفين إلى التنقل والعمل يوميًا تحت أشعة الشمس الحارقة، دون توفر الحد الأدنى من وسائل الحماية من الإجهاد الحراري، الذي قد يفضي إلى الوفاة في بعض الحالات.
عشرة عمال وموظفين تحدثت إليهم “زاوية ثالثة”، أكدوا تأثرهم الشديد بموجات الحرارة المتكررة، في ظل غياب أي إجراءات وقائية أو وسائل لتبريد الهواء داخل مقار العمل، التي تفتقر في معظمها إلى أجهزة تكييف. أما العاملون في قطاعات الزراعة والبناء والنظافة وغيرها، فهم الأكثر تضررًا، نظرًا لاضطرارهم إلى العمل تحت الشمس المباشرة، وسط فراغ تشريعي يحرمهم من أبسط حقوق الحماية المناخية.
يُعرف الإجهاد الحراري بأنه من أخطر الآثار الصحية الناتجة عن ارتفاع درجات الحرارة، ويحدث عندما يعجز الجسم عن التخلص من الحرارة الزائدة بسبب الطقس الحار، أو ارتفاع نسبة الرطوبة، أو الجهد البدني الزائد، مما يؤدي إلى اختلال التوازن الحراري الداخلي. وتظهر أعراضه في شكل إرهاق شديد، صداع، دوار، وتقلصات عضلية نتيجة فقدان الجسم للأملاح والسوائل، وقد تتفاقم إلى ضربة شمس قد تفضي إلى الوفاة.
وتتضاعف الخطورة في الأماكن المفتوحة وأماكن العمل الشاقة مثل مواقع البناء والحقول والمصانع، حيث يُجبر كثيرون على العمل في ظروف غير إنسانية. ويُعد كبار السن، والأطفال، ومرضى الأمراض المزمنة، من الفئات الأكثر عرضة للإصابة. ومع تصاعد الظواهر المناخية المتطرفة، لم يعد الإجهاد الحراري تحديًا صحّيًا فقط، بل تحوّل إلى أزمة اجتماعية واقتصادية تتطلب تدخلًا تشريعيًا عاجلًا، خاصة في دول مثل مصر التي تعاني من هشاشة منظومة الحماية المناخية في أماكن العمل.
نوصي للقراءة: أعمار على السقالات.. وحقوق على الورق
الموت حرًا..
الموت بسبب الحر، لم يعد خطرًا نادر الحدوث. فوفقًا لمنظمة الصحة العالمية، تودي الحرارة المرتفعة بحياة نحو 489 ألف شخص سنويًا حول العالم، نتيجة عجز الجسم عن التكيف مع الظروف المناخية القاسية، خاصة في المناطق التي تشهد موجات حر متكررة وارتفاعًا في معدلات الرطوبة، وسط ضعف أنظمة الحماية البيئية والصحية.
وتكشف تقارير منظمة العمل الدولية عن بُعد مهني حاد في هذه الأزمة، حيث يُسجل ما يقرب من 19 ألف وفاة سنويًا بين العمال أثناء ساعات العمل، نتيجة التعرض للإجهاد الحراري.
أما في مصر، فالخطر يتعاظم مع الطبيعة المناخية الحارة والجافة، واتساع رقعة العمل في القطاعات المكشوفة. وتشير دراسة نُشرت في مجلة “لانست للصحة العامة” إلى تسجيل نحو 2,591 حالة وفاة سنويًا بسبب الحرارة المرتفعة في البلاد.
وتُبرز بيانات الجهاز المركزي للتعبئة العامة والإحصاء حجم التحدي، إذ بلغ عدد المشتغلين في مصر نحو 31 مليون شخص حتى نهاية عام 2024، بينهم حوالي 20.6 مليون موظف أو عامل بأجر، يعمل غالبيتهم في قطاعات تفتقر إلى اشتراطات السلامة المناخية، سواء في القطاع الحكومي أو الخاص، المنظم وغير المنظم.
تُعد فئة العمال في قطاعات الزراعة والبناء والصناعة التحويلية من الأكثر تعرضًا للإجهاد الحراري، نظرًا لطبيعة أعمالهم المكشوفة وفترات العمل الطويلة تحت أشعة الشمس. وفي حين قد يحظى بعض العاملين في القطاع الخاص المنظم بوسائل محدودة للحماية، يظل عمال القطاع غير المنظم الأشد هشاشة، إذ تغيب عنهم تمامًا أي إجراءات وقائية. أما الموظفون الحكوميون، فعادة ما يعملون في بيئات مغلقة نسبياً، ما يقلل من احتمالات تعرضهم المباشر للإجهاد الحراري.
خلال موجة حر شديدة في عام 2022، سجّلت وزارة الصحة المصرية وفاة 76 شخصًا ودخول 447 شخصًا إلى المستشفيات نتيجة للإرهاق الحراري، في حين أبلغت عن 95 حالة وفاة بسبب ضربة شمس و1400 إصابة عام 2020.
كذلك تُظهر التوقعات ارتفاعًا محتملًا في حالات الإصابة بـ “الأمراض المرتبطة بالحرارة” بمئات الحالات سنويًا بحلول عام 2030، وارتفاع نسبة الوفيات بمقدار 300٪ بحلول عام 2100 إذا استمر ارتفاع حرارة الأرض بمعدل 3 درجات مئوية. فيما تشير تقديرات أخرى إلى أن التغيرات المناخية وتفاقم الإجهاد الحراري قد تؤدي إلى ألفين إلى 5 ألاف حالة وفاة إضافية سنويًا في مصر، إلى جانب خسائر اقتصادية تتراوح بين 20 إلى 48 مليار جنيه سنويًا.
نوصي للقراءة: فصل البنا بقرار محكمة.. هل يُمهّد الطريق لتصفية “وبريات سمنود”؟

شهادات من قلب مواقع البناء
بين الحديد والأسمنت والغبار، يعمل عمال البناء تحت شمس لا ترحم. ومع ارتفاع درجات الحرارة، تتحول مواقع العمل إلى مسارح لمعركة صامتة بين الأجساد المنهكة وحرارة الجو.
محمد السيد، عامل في الثلاثينات من عمره من محافظة الجيزة، يقول في حديث إلى “زاوية ثالثة”: “أبدأ العمل من السابعة صباحًا، وربما قبل ذلك الموعد. في بداية اليوم، تكون درجة الحرارة معتدلة ولا نشعر بجهد كبير، لكن مع مرور الوقت واقتراب الظهيرة، نشعر أن الشمس تتعامد فوق رؤوسنا، وكأن الحديد نفسه يكاد يلين من الحرارة.”
ويضيف: “بالطبع لا نحصل على ساعات راحة كافية. قد نعمل لأكثر من 9 ساعات، يتخللها ساعة واحدة فقط عند منتصف اليوم للراحة وتناول الطعام. أجسامنا تأثرت بالتأكيد، خاصة خلال السنوات الماضية مع ارتفاع درجات الحرارة، وبدأت تظهر علينا أعراض لأمراض مختلفة في المعدة والجلد. وسمعنا عن زميل لنا تُوفي بسبب ضربة شمس أثناء عمله في إحدى شركات البناء بمدينة السادس من أكتوبر.”
لا يختلف الأمر كثيرًا بالنسبة للموظفين، فرغم أن الصورة الذهنية المرتبطة بمعاناة الحر تنصرف غالبًا إلى العمال في الشوارع أو المصانع، إلا أن موظفي البنوك وغيرهم يعانون أيضًا، وإن اختلفت طبيعة التجربة، فإن قسوتها لا تقل. ففي المكاتب الزجاجية ذات الواجهات الكبيرة، تتحول ساعات الذروة إلى جحيم مكتوم يصعب احتماله.
منى عبد الرازق، موظفة في أحد البنوك الحكومية بالقاهرة، تجسد هذه المعاناة. إذ تُجبر على ارتداء البدلة الرسمية والملابس الكاملة طوال ساعات العمل، حتى في أيام تتجاوز فيها درجات الحرارة حاجز الأربعين. وتوضح أن المعاناة تزداد عندما يتعطل جهاز التكييف أو يعمل بطاقة ضعيفة، خاصة في ظل تكدس الموظفين والعملاء، ما يحوّل قاعة البنك إلى “فرن مكتوم”، على حد وصفها.
وتروي منى أنها اضطرت في صيف عام 2022 إلى مغادرة مكتبها فجأة بعد شعورها بإعياء ودوار شديدين، ليكتشف الأطباء لاحقًا إصابتها بجفاف حاد. وتشير إلى أن زملاءها يعيشون ظروفًا مشابهة، حيث لا تقتصر الآثار على الجانب البدني، بل تشمل أيضًا التوتر وصعوبة التركيز أثناء التعامل مع العملاء. وتطالب بإعادة النظر في قواعد اللباس الصارمة، ووضع خطط طوارئ داخل أماكن العمل، مؤكدة أن مثل هذه الإجراءات “ليست رفاهية بل مسألة حياة وصحة”.
ولا تقتصر معاناة الإجهاد الحراري على المكاتب المغلقة، بل تمتد إلى شوارع القاهرة المزدحمة، حيث يتصدر سائقو الميكروباص قائمة الفئات الأكثر تعرضًا للخطر. فالمقاعد الجلدية التي تلسع الجالس عليها من شدة السخونة، والمقود الذي يتحول إلى قطعة نار، والزجاج المحيط الذي يحتجز الحرارة، كلها عوامل تجعل من بيئة القيادة مساحة خانقة، تُضاف إلى يوم عمل طويل محفوف بالإرهاق عماد حسن، سائق ميكروباص منذ أكثر من عشرين عامًا، يصف ساعات عمله الطويلة تحت الشمس بأنها اختبار يومي للإرهاق وفقدان التركيز. ويضيف أن الخطر لا يقتصر على معاناته الشخصية، بل يهدد أيضًا سلامة الركاب والمارة، مستشهدًا بحادث تعرض له أحد زملائه عام 2021، حين غلبه النوم في عز الظهر أثناء القيادة، ما أدى إلى حادث مروع لا تزال آثاره قائمة حتى اليوم.
ويؤكد عماد أن سائقي الميكروباص لا يملكون ترف التوقف أو الراحة، إذ يرتبط دخلهم بعدد الرحلات اليومية، ومع ارتفاع أسعار الوقود صاروا مجبرين على العمل لساعات أطول رغم قسوة الطقس. يقول بمرارة: “الحر يفتك بصحتنا يومًا بعد يوم، لكننا مضطرون للقيادة كي نعيش”.
وفي قلب المصانع، لا يبدو المشهد أقل قسوة. حيث تتصاعد حرارة الآلات إلى جانب حرارة الجو، وتتحول بيئة العمل إلى قدر يغلي. أحمد عبد العاطي، عامل في مصنع للغزل والنسيج بمدينة المحلة الكبرى، يصف الأجواء قائلًا إن الماكينات لا تتوقف وتبعث سخونة مضاعفة، بينما لا توفر المراوح القليلة المنتشرة سوى نسمات عاجزة عن مواجهة الوضع، أما أجهزة التكييف فتبقى مجرد حلم بعيد المنال.
ويؤكد أحمد أن آثار الإجهاد الحراري تظهر يوميًا على أجساد العمال، إذ يشكو كثيرون من صداع مستمر ودوخة، وفي بعض الحالات يُنقل زملاء إلى المستشفى بعد انهيارهم وسط خطوط الإنتاج. ويضيف أن بعضهم يتردد في الإبلاغ عن تدهور حالته الصحية، خشية أن يُنظر إليه على أنه غير صالح للعمل، مما يزيد من تفاقم الخطر.
ويرى أن غياب أنظمة الحماية والوقاية يترك العمال في مواجهة مباشرة مع الحرارة القاتلة، مشددًا على أنهم لا يعملون فقط لإنتاج السلع، بل يخوضون يوميًا معركة صامتة من أجل البقاء، في ظل غياب سياسات تحميهم أو تعترف بمعاناتهم.
ومع انتشار خدمات وتطبيقات التوصيل السريع، بات “الدليفري” جزءًا من المشهد اليومي في المدن الكبرى. لكن خلف كل طلبية تصل في وقتها، هناك شاب يقود دراجته النارية تحت شمس قاسية، وعلى طرق تزداد سخونة بفعل زحام السيارات ولهيب الأسفلت.
كريم مصطفى، شاب في العشرينات يعمل لدى إحدى شركات التوصيل، يصف تجربته اليومية قائلاً إن الساعات الطويلة التي يقضيها على الدراجة وسط الزحام والحرارة تجعله غارقًا في العرق حتى تبتل ملابسه بالكامل. ويضيف أنه تعرض أكثر من مرة لحالات جفاف حاد اضطرته للتوقف عن العمل مؤقتًا، لكنه يعود سريعًا خشية خسارة دخله، خاصة أن التطبيق يفرض أوقات تسليم صارمة لا تسمح بأي تأخير.
ويشير كريم إلى أن زملاءه يلجأون لحلول بدائية لتخفيف وطأة الحرارة، مثل حمل زجاجات مياه مثلجة أو تغطية الرأس بقطع قماش مبللة، لكنها لا تمنح سوى راحة عابرة. ويؤكد أن هذه الفئة من العمال “منسية” في ظل غياب الحماية القانونية، حيث لا توفر الشركات أي إجراءات سلامة فعالة، ولا توجد قوانين واضحة تضمن لهم الحد الأدنى من الأمان في بيئة عمل تزداد قسوة يومًا بعد يوم.
نوصي للقراءة: تقييد حقوق العمال يضع مصر بين الدول الأسوأ في الحريات النقابية
خطر محدق فهل تتحرك الحكومة؟
يتفق الخبيران، الدكتور تامر شراكي استشاري الأمن والسلامة المهنية، والباحث العمالي حسن بربري، على أن الإجهاد الحراري لم يعد عرضًا عابرًا أو مشكلة ثانوية مرتبطة بالصيف، بل يتحول إلى خطر حقيقي يهدد حياة العمال في مصر في ظل تصاعد تأثيرات التغير المناخي. ويؤكدان في حديث إل زاوية ثالثة أن هذه الظاهرة تحمل أبعادًا صحية وقانونية ومجتمعية متشابكة، حيث يقف العمال في قلب المواجهة مع درجات حرارة مرتفعة، بينما لا تزال الأطر القانونية والمؤسسية عاجزة عن حمايتهم بشكل فعّال.
من جهته، يشدد الدكتور تامر شراكي على أن الإجهاد الحراري يمثل تهديدًا مباشرًا قد يقود إلى مضاعفات قاتلة مثل ضربة الشمس، موضحًا أن هذا الخطر يحدث عندما ترتفع حرارة الجسم الداخلية نتيجة فقدان كميات كبيرة من الماء والأملاح بسبب التعرق المفرط، ما يعيق الجسم عن أداء وظائفه الحيوية.
ويرى أن الخطورة تكمن في أن المرض يتطور عبر ثلاث مراحل: تبدأ بـ التشنجات الحرارية الناتجة عن اختلال توازن الأملاح، ثم تتطور إلى الإنهاك الحراري الذي يصاحبه إرهاق شديد ودوخة وغزارة في التعرق، وصولًا إلى ضربة الشمس التي قد تؤدي إلى فقدان الوعي وتوقف عمل أجهزة حيوية بالجسم، مؤكدًا أن تجاهل الأعراض المبكرة يفقد المصاب فرصة التدخل في الوقت المناسب ويضاعف احتمالات الوفاة.
ويشير شراكي إلى أن الأعراض الأولية تبدأ عادة بالإرهاق والصداع والغثيان والتعرق الغزير مع سرعة ضربات القلب والشعور بالدوار، قبل أن تتطور لاحقًا إلى تشنجات واضطراب في الوعي. ويعتبر أن فقدان التعرق مع ارتفاع حرارة الجسم الداخلية يُعد إشارة خطيرة إلى دخول المصاب مرحلة ضربة الشمس التي تستدعي تدخلًا طبيًا عاجلًا.
ويضيف في حديثه معنا أن السبب المباشر لهذه الحالات هو التعرض لفترات طويلة لدرجات حرارة ورطوبة مرتفعة، خاصة عند ممارسة نشاط بدني شاق في بيئة مفتوحة. كما أن ارتداء ملابس ثقيلة أو غير مناسبة يضاعف من حدة الخطر. وينبه إلى أن بعض الفئات مثل الأطفال وكبار السن ومرضى القلب والسكري أكثر عرضة للإصابة بسبب ضعف قدرتهم على تحمل التغيرات الحرارية أو تعويض السوائل المفقودة.
البعد القانوني والمهني
أما الباحث العمالي حسن بربري فيوضح أن الأزمة لا تتوقف عند الجانب الطبي، بل تمتد إلى ثغرات قانونية ومؤسسية، ويشير إلى أن مصر تعيش مرحلة انتقالية بين قانون العمل القديم والجديد المقرر دخوله حيز التنفيذ في سبتمبر المقبل، وهو قانون يتضمن موادًا أكثر صرامة بخصوص السلامة والصحة المهنية، حيث يُلزم أصحاب العمل بتأمين العمال ضد المخاطر، وضبط ساعات العمل، وتسجيل إصابات العمل وصرف التعويضات. لكنه يلفت إلى أن غياب الوضوح في هذه المرحلة يترك العمال بلا حماية كافية، متسائلًا: “هل نطبّق القانون القديم أم ننتظر الجديد؟”، وهو ما يجعل الوضع ملتبسًا.
ويؤكد بربري في حديثه معنا أن آلاف العمال في مواقع ومصانع ومزارع، سواء في أماكن مفتوحة أو مغلقة، يتعرضون يوميًا لمخاطر الإجهاد الحراري. ويشدد على أن هذا الخطر ليس نظريًا، بل حقيقي وملموس، مستشهدًا بحادثة وفاة عامل نظافة في الشرقية مؤخرًا نتيجة عمله تحت أشعة الشمس الحارقة.
يلفت الباحث العمالي إلى أن الاستراتيجية الوطنية للسلامة والصحة المهنية ما تزال حبيسة التصريحات. فكان من المفترض إعلانها في عيد العمال 2024، لكن لم يتحقق شيء فعلي. ويشير إلى أن وزارة العمل اكتفت حينها ببيانات عامة حول تقليل الحوادث، وتوسيع نظام التفتيش ليشمل الورش الصغيرة والعمالة غير المنتظمة، وحماية النساء ونشر ثقافة السلامة، لكن دون خطوات ملموسة.
ويضيف أن المجلس الاستشاري المنصوص عليه في القانون الجديد، والذي يُفترض أن يتحول إلى مجلس أعلى للصحة والسلامة المهنية، لا يقوم بدوره حتى الآن، في ظل غياب الرقابة وعدم وجود إحصاءات دقيقة عن الحوادث. ويرى أن ما يحدث لا يتجاوز قرارات فردية متفرقة على مستوى المحافظات مثل تقليص ساعات عمل عمال النظافة نهارًا، بينما تظل مسألة التعويضات عن الإصابات غامضة وغير مفعلة.
الوقاية: مسؤولية مشتركة
على صعيد الوقاية، يرى شراكي أن المسؤولية جماعية تبدأ من السياسات الحكومية إلى الممارسات الفردية، فالحكومة مطالبة بسن تشريعات واضحة مثل حظر العمل في أوقات الذروة، وتفعيل الرقابة على أماكن العمل، فيما يتحتم على أصحاب الأعمال توفير مياه شرب باردة باستمرار، وأماكن استراحة مظللة، وتعديل ساعات العمل بما يتناسب مع الظروف الجوية.
ويشدد بربري على أن العمال أنفسهم مطالبون باتخاذ احتياطات أساسية، منها شرب كميات كبيرة من المياه على مدار اليوم، وارتداء ملابس قطنية فاتحة اللون وخفيفة بدلًا من (الأفرولات) الثقيلة التي يرتديها عمال النظافة حاليًا وكأنها مخصصة للشتاء.
كذلك يدعو إلى منح العمال فترات راحة لا تقل عن نصف ساعة في الظل، وجدولة الأعمال الشاقة في المساء أو الليل بعد غروب الشمس، إضافة إلى ضرورة تغطية الرأس بغطاء يسمح بالتهوية وتبريد الملابس والجسم بالمياه. ويؤكد أن تعاون العمال مع بعضهم، ومراقبة كل منهم لحالة زملائه، يمثل خط دفاع أساسي قد ينقذ حياة في حال ظهور أعراض الإجهاد الحراري.
ويحذر شراكي من أن آثار الإجهاد الحراري لا تقتصر على الأفراد، بل تمتد إلى المؤسسات والمجتمعات، حيث يؤدي إلى تراجع الإنتاجية وزيادة نسب الغياب والإصابات المهنية، ما يجعله تهديدًا اقتصاديًا واجتماعيًا.
وفي الثاني عشر من أغسطس الماضي، أبدى المركز المصري للحقوق الاقتصادية والاجتماعية دعمه للقرارات الصادرة عن بعض المحافظات التي كرّست خطوات ملموسة لحماية العمال، خاصة عمال النظافة، من العمل خلال ساعات ذروة الحرارة. على سبيل المثال، حظر العمل في الشوارع خلال فترة الظهيرة يعد “خطوة في الاتجاه الصحيح” استجابةً لتحذيرات المركز بشأن خطورة الإجهاد الحراري. وشدّد المركز على وجوب تطبيق مجموعة من الإجراءات الطارئة، منها تقليل ساعات العمل في أوقات الذروة، زيادة فترات الراحة، توفير أماكن مظللة أو باردة للراحة، تخصيص أوقات للعمل في الفترات الباردة، وتوفير مياه باردة ومراقبة صحية للعاملين، ليكون ذلك جزءًا من استراتيجيات الحماية المؤسسية وليس إجراءات مؤقتة
ويتفق الخبيران، شراكي وبربري، على أن مواجهة خطر الإجهاد الحراري تتطلب نهجًا تكامليًا يجمع بين الوعي الصحي، والسياسات الحكومية الرادعة، والتزام أصحاب الأعمال، ووعي العمال أنفسهم. فالصحة والسلامة المهنية، كما يقول شراكي، لم تعد رفاهية، بل تمثل خط الدفاع الأول عن الإنسان في مواجهة التحديات البيئية والمهنية.
ويضيف بربري أن غياب الرقابة والوضوح القانوني يضاعف من حجم الخطر، ما يجعل الحاجة إلى تحرك سريع أكثر إلحاحًا في ظل التغيرات المناخية الحالية التي تجعل من الإجهاد الحراري تهديدًا متناميًا يواجه العمال في مصر كل صيف.
أمام هذا الواقع، لم تعد حماية العمال من الإجهاد الحراري مجرد قضية صحية، بل باتت قضية عدالة اجتماعية وتشريعية ترتبط بحق الإنسان في بيئة عمل آمنة. وبينما تتصاعد موجات الحرارة عامًا بعد عام، يستمر آلاف العمال في دفع الثمن—بصمت، وبلا حماية، وتحت شمس لا ترحم.
ليست هناك تعليقات:
إرسال تعليق